فصل: (سورة آل عمران: آية 28)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



عن ابن عباس قال: كان الحجاج بن عمرو وابن أبي الحقيق وقيس بن زيد وهؤلا كانوا من اليهود يباطنون نفرًا من الأنصار يفتنونهم عن دينهم. فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعد بن خيثمة لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء اليهود. فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم فنزلت هذه الآية.
وعن ابن عباس أيضا في رواية الضحاك: نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري وكان بدريًا نقيبًا، وكان له حلفاء من اليهود.
فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب قال عبادة: يا نبي الله، إن معي خمسمائة رجل من اليهود وقد رأيت أن يخرجوا معي فأستظهر بهم على العدو فنزلت. وقال الكلبي: نزلت في المنافقين- عبد الله بن أبيّ وأصحابه- كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية، ونهى المؤمنين عن مثل فعلهم. وقد كرر ذلك في آيات أخر كثيرة {لا تتخذوا بطانة من دونكم} [آل عمران: 118] {لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء} [المائدة: 51] {لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله} [المجادلة: 22] وكون المؤمن مواليًا للكافر يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها أن يكون راضيًا بكفره والرضا بالكفر كفر فيستحيل أن يصدر عن المؤمن فلا يدخل تحت الآية لقوله: {يا أيها الذين آمنوا} وثانيها المعاشرة الجميلة في الدنيا بحسب الظاهر وذلك غير ممنوع منه والثالث كالمتوسط بين القسمين وهو الركون إليهم والمعونة والمظاهرة لقرابة أو صداقة قبل الإسلام أو غير ذلك، ولهذا قال مقاتل: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره، وكانوا يظهرون المودّة لكفار مكة مع اعتقاد أن دينهم باطل، فهذا لا يوجب الكفر إلا أنه منهي عنه حذرًا من أن يجره إلى استحسان طريقته والرضا بدينه حتى يخصه بالموالاة دون المؤمنين، فلا جرم هدد فقال: {من يفعل ذلك فليس من الله} أي من ولايته أو من دينه {في شيء} يقع عليه اسم الولاية يعني أنه منسلخ عن ولاية الله رأسًا، وهذا كالبيان لقوله: {من دون المؤمنين} ليعلم أن الاشتراك بينهم وبين المؤمنين في الموالاة غير متصوّر وهذا أمر معقول، فإن موالاة الولي وموالاة عدوه ضدان قال:
تود عدوّي ثم تزعم أنني ** صديقك ليس النوك عنك بعازب

قال بعض الحكماء: هذا ليس بكلي فإنه قد يكون المشفق على العدوّ مشفقًا على العدو الآخر كالملك العادل فإنه محب لهما، فإن أراد أحد أن يعم الحكم لابد له أن يزيد عليه إذا كانوا في مرتبة واحدة {إلا أن تتقوا منهم تقاة} قال الجوهري: يقال اتقى تقية وتقاة مثل اتخم تخمة، وفاؤها واو كتراث. فالتقاة اسم وضع موضع المصدر. قال الواحدي: ويجوز أن يجعل {تقاة} هاهنا مثل دعاة ورماة فيكون حالًا مؤكدة، وعلى هذين الوجهين يكون تتقوا مضمنًا معنى تحذروا أو تخافوا ولذا عدي بمن.
ويحتمل أن يكون التقاة أو التقية بمعنى المتقي مثل: ضرب الأمير لمضروبه، فالمعنى إلا أن تخافوا من جهتهم أمرا يجب اتقاؤه. رخص لهم في موالاتهم إذا خافوهم، والمراد بتلك الموالاة محالفة ومعاشرة ظاهرة والقلب مطمئن بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع من قشر العصا وإظهار الطوية كقول عيسى عليه السلام: كن وسطًا وامش جانبًا أي ليكن جسدك بين الناس وقلبك مع الله.
وللتقية عند العلماء أحكام منها: إذا كان الرجل في قوم كفار يخاف منهم على نفسه جاز له أن يظهر المحبة والموالاة ولكن بشرط أن يضمر خلافه ويعرّض في كل ما يقول ما أمكن، فإن التقية تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلب. ومنه أنها رخصة فلو تركها كان أفضل لما روى الحسن أنه أخذ مسيلمة الكذاب رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم. قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم.- وكان مسيلمة يزعم أنه رسول بني حنيفة ومحمد رسول قريش- فتركه ودعا الآخر وقال: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ فقال: نعم نعم نعم. فقال: أتشهد أني رسول الله؟ فقال: إني أصم ثلاثًا، فقدمه وقتله. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال: أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيأ له، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه.
ونظير هذه الآية: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} [النحل: 106] ومنها أنها إنما تجوز فيما يتعلق بإظهار الموالاة والمعاداة. وقد يجوز أن تكون أيضا فيما يتعلق بإظهار الدين، فأما الذي يرجع ضرره إلى الغير كالقتل والزنا وغصب الأموال وشهادة الزور وقذف المحصنات وإطلاع الكفار على عورات المسلمين فذلك غير جائز ألبتة. ومنها أن الشافعي جوز التقية بين المسلمين كما جوّزها بين الكافر محاماة على النفس. ومنها أنها جائزة لصون المال على الأصح كما أنها جائزة لصون النفس لقوله صلى الله عليه وسلم: «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» و«من قتل دون ماله فهو شهيد» ولأن الحاجة إلى المال شديدة ولهذا يسقط فرض الوضوء ويجوز الاقتصار على التيمم إذا بيع الماء بالغبن. قال مجاهد: كان هذا في أول الإسلام فقط لضعف المؤمنين.
وروى عوف عن الحسن أنه قال: التقية جائزة إلى يوم القيامة. وهذا أرجح عند الأئمة.
{ويحذركم الله نفسه} قيل: أي عقاب نفسه.
وفيه تهديد عظيم لمن تعرّض لسخطه بموالاة أعدائه لأن شدة العقاب على حسب قدرة المعاقب. وفائدة ذكر النفس تصريح بأن الذي حذر منه هو عقاب يصدر من الله لا من غيره. وقيل: الضمير يعود إلى اتخاذ الأولياء أي ينهاكم الله عن نفس هذا الفعل. ثم حذر عن جعل الباطن موافقًا للظاهر في وقت التقية فقال: {قل إن تخفوا ما في صدوركم} أي قلوبكم وضمائركم لأن القلب في الصدر فجاز إقامة الظرف مقام المظروف {أو تبدوه يعلمه الله} يتعلق به علمه الأزلي.
ثم استأنف بيانًا أشفى وتحذيرًا أوفى فقال: {ويعلم ما في السموات وما في الأرض} ثم قال إتمامًا للتحذير {والله على كل شيء قدير} ثم خلط الوعيد بالوعد والترهيب بالترغيب فقال: {يوم تجد} وفي عامله وجوه قال ابن الأنباري: وإلى الله المصير يوم تجد. وقيل: والله على كل شيء قدير يوم تجد، وخص ذلك اليوم بالذكر وإن كان غيره من الأيام بمنزلته في قدرة الله تعالى تعظيمًا لشأنه مثل {مالك يوم الدين} [الفاتحة: 3] وقيل: انتصابه بمضمر أي اذكر. والأظهر أن العامل فيه {تود} والضمير في {بينه} لليوم أي تود كل نفس يوم تجد ما عملت من خير محضرًا وما عملت من سوء محضرًا أيضا لو أن بينها وبين ذلك اليوم وهو له أمدًا بعيدًا. والأمد الغاية التي ينتهي إليها مكانًا كانت أو زمانًا. والمقصود تمني بعده كقوله: {يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين} [الزخرف: 38] ومعنى كون العمل محضرًا هو أن يكون ما كتب فيه العمل من الصحائف حاضرًا، أو يكون جزاؤه حاضرًا إذ العمل عرض لا يبقى. ثم إن لم يكن يوم متعلقًا بـ {تود} احتمل أن يكون {تود} صفة {سوء} والضمير في {بينه} يعود إليه، واحتمل أن يكون حالًا، واحتمل أن يكون {ما عملت} مبتدأ من الصلة والموصول و{تود} خبره وهو الأكثر، واحتمل أن يكون ما شرطية و{تود} جزاء له وهو قليل كقوله:
وإن أتاه خليل يوم مسغبة ** يقول لا غائب ما لي ولا حرم

وقراءة عبد الله {ودت} يحتملها على السواء إلا أن الحمل على الابتداء والخبر أوقع في المعنى لأنه حكاية الكائن في ذلك اليوم {ويحذركم الله نفسه} تأكيد للوعيد {والله رؤوف بالعباد} قال الحسن: ومن رأفته أن حذرهم نفسه وعرّفهم كمال علمه وقدرته، وأنه يمهل ولا يهمل، ورغبهم في استيجاب رحمته، وحذرهم من استحقاق غضبه. ويجوز أن يراد أنه رؤوف بهم حيث أمهلهم للتوبة والتلافي، أو هو وعد كما أن التحذير وعيد، أو المراد بالعباد عباده المخلصون كقوله: {عينًا يشرب بها عباد الله} [الدهر: 6] كما هو منتقم من الفساق ومحذرهم نفسه فهو رؤوف بالعباد المطيعين والمحسنين. ثم أنه تعالى دعا القوم إلى الإيمان به ورسوله من طريق آخر سوى طريق التهديد والتحذير فقال: {قل إن كنتم تحبون الله} قال الحسن وابن جريج: زعم أقوام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يحبون الله فقالوا: يا محمد إنا نحب ربنا فأنزل الله هذه الآية.
وروى الضحاك عن ابن عباس قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قريش وهم في المسجد الحرام وقد نصبوا أصنامهم وعلقوا عليها بيض النعام وجعلوا في آذانها الشنوف وهم يسجدون لها فقال: «يا معشر قريش، لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسماعيل ولقد كانا على الإسلام». فقالت قريش: يا محمد إنا نعبد هذه حبًا لله ليقربونا إلى الله زلفى.
فأنزل الله: {قل إن كنتم تحبون الله} وتعبدون الأصنام لتقربكم إليه {فاتبعوني يحببكم الله} فأنا رسوله إليكم وحجته عليكم وأنا أولى بالتعظيم من أصنامكم.
وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها نزلت حين زعمت اليهود أنهم أبناء الله وأحباؤه. وقيل: نزلت في نصارى نجران زعموا أنهم يعظمون المسيح ويعبدونه حبًا لله وتعظيمًا له. والحاصل أن كل من يدعي محبة الله تعالى من فرق العقلاء فلابد أن يكون في غاية الحذر مما يوجب سخطه، فإذا قامت الدلائل العقلية والمعجزات الحسية على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وجبت متابعته. فليس في متابعته إلا أنه يدعوهم إلى طاعة الله وتعظيمه وترك تعظيم غيره. فمن أحب الله كان راغبًا فيه لأن المحبة توجب الإقبال بالكلية على المحبوب والإعراض بالكلية عن غيره، وقد مر في تفسير قوله: {والذين آمنوا أشد حبًا لله} [البقرة: 165] تحقيق المحبة وأنها من الله تعالى عبارة عن إعطاء الثواب. وقال: {ويغفر لكم ذنوبكم} ليدل مع إيفاء الثواب على إزالة العقاب وهذه غاية ما يطلبه كل عاقل.
{والله غفور} في الدنيا يستر على عبده أنواع المعاصي {رحيم} في الآخرة يثيبه على مثقال الذرة من الطاعة والحسنة. يروى أنه لما نزل: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني} قال عبد الله بن أبيّ إن محمدًا يجعل طاعته كطاعة الله ويأمرنا أن نحبه كما أحب النصارى عيسى فنزلت {قل أطيعوا الله والرسول} وذلك أن الآية الأولى لما اقتضت وجوب متابعته ثم إن المنافق ألقى شبهة في البين أمره الله تعالى أن يقول: إنما أوجب الله عليكم متابعتي لا لما يقوله النصارى في عيسى بل لكوني رسولًا من عند الله ومبلغ تكاليفه {فإن تولوا} أعرضوا أو تعرضوا على أن يكون التاء الأولى محذوفة ويدخل في جملة ما يقوله الرسول لهم، فإنه لا يحصل للكافرين محبة الله لأنها عبارة عن الثناء لهم وإيصال الثواب إليهم، والكافر يستحق الذم واللعن وهذا ضد المحبة. اهـ.

.من فوائد الزمخشري في الآيات:

قال رحمه الله:

.[سورة آل عمران: آية 27]

{قُلِ اللهمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ}.
الميم في {اللهمَّ} عوض من يا، ولذلك لا يجتمعان. وهذا بعض خصائص هذا الاسم كما اختص بالتاء في القسم، وبدخول حرف النداء عليه، وفيه لام التعريف، وبقطع همزته في يا الله، وبغير ذلك {مالِكَ الْمُلْكِ} أي تملك جنس الملك فتتصرف فيه تصرّف الملاك فيما يملكون {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ} تعطى من تشاء النصيب الذي قسمت له واقتضته حكمتك من الملك {وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ} النصيب الذي أعطيته منه، فالملك الأوّل عام شامل، والملكان الآخران خاصان بعضان من الكل: روى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة وعد أمته ملك فارس والروم، فقال المنافقون واليهود: هيهات هيهات، من أين لمحمد ملك فارس والروم؟ هم أعز وأمنع من ذلك.
وروى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خط الخندق عام الأحزاب وقطع لكل عشرة أربعين ذراعا وأخذوا يحفرون، خرج من بطن الخندق صخرة كالتل العظيم لم تعمل فيها المعاول، فوجهوا سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره، فأخذ المعول من سلمان فضربها ضربة صدّعتها «و برق منها برق أضاء ما بين لابتيها، لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم، وكبر وكبر المسلمون وقال: أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب، ثم ضرب الثانية فقال: أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم، ثم ضرب الثالثة فقال: أضاءت لي قصور صنعاء، وأخبرنى جبريل عليه السلام أن أمّتى ظاهرة على كلها، فأبشروا. فقال المنافقون: ألا تعجبون، يمنيكم ويعدكم الباطل، ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم، وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا، فنزلت. فإن قلت: كيف قال بِيَدِكَ الْخَيْرُ فذكر الخير دون الشر؟ قلت: لأنّ الكلام إنما وقع في الخير الذي يسوقه إلى المؤمنين وهو الذي أنكرته الكفرة، فقال بيدك الخير تؤتيه أولياءك على رغم من أعدائك، ولأن كل أفعال الله تعالى من نافع وضارّ صادر عن الحكمة والمصلحة، فهو خير كله كإيتاء الملك ونزعه.
ثم ذكر قدرته الباهرة بذكر حال الليل والنهار في المعاقبة بينهما، وحال الحىّ والميت في إخراج أحدهما من الآخر، وعطف عليه رزقه بغير حساب على أنّ من قدر على تلك الأفعال العظيمة المحيرة للأفهام ثم قدر أن يرزق بغير حساب من يشاء من عباده، فهو قادر على أن ينزع الملك من العجم ويذلهم ويؤتيه العرب ويعزهم وفي بعض الكتب: أنا الله ملك الملوك، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي، فإن العباد أطاعونى جعلتهم لهم رحمة، وإن العباد عصوني جعلتهم عليهم عقوبة، فلا تشتغلوا بسب الملوك ولكن توبوا إلىّ أعطفهم عليكم»
وهو معنى قوله عليه السلام: «كما تكونوا يولى عليكم».

.[سورة آل عمران: آية 28]

{لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ وَإِلَى الله الْمَصِيرُ (28)}.
نهوا أن يوالوا الكافرين لقرابة بينهم أو صداقة قبل الإسلام أو غير ذلك من الأسباب التي يتصادق بها ويتعاشر، وقد كرّر ذلك في القرآن.
{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}، {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ}، {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِالله} الآية.
والمحبة في الله والبغض في الله باب عظيم وأصل من أصول الإيمان {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} يعنى أن لكم في موالاة المؤمنين مندوحة عن موالاة الكافرين فلا تؤثروهم عليهم {وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ} ومن يوالى الكفرة فليس من ولاية الله في شيء يقع عليه اسم الولاية، يعنى أنه منسلخ من ولاية الله رأسًا، وهذا أمر معقول فإنّ موالاة الولىّ وموالاة عدوّه متنافيان، قال:
تَوَدُّ عَدُوِّى ثُمَّ تَزْعُمُ أَنَّنِى ** صدِيقُكَ لَيْسَ النَّوْكُ عَنْكَ بِعَازِبِ

{إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً} إلا أن تخافوا من جهتهم أمرًا يجب اتقاؤه. وقرئ: تقية. قيل للمتقى تقاة وتقية، كقولهم: ضرب الأمير لمضروبه. رخص لهم في موالاتهم إذا خافوهم، والمراد بتلك الموالاة مخالفة ومعاشرة ظاهرة والقلب مطمئن بالعداوة والبغضاء، وانتظار زوال المانع من قشر العصا، كقول عيسى صلوات الله عليه «كن وسطا وامش جانبا» {وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} فلا تتعرضوا لسخطه بموالاة أعدائه، وهذا وعيد شديد. ويجوز أن يضمن {تَتَّقُوا} معنى تحذروا وتخافوا، فيعدى بمن وينتصب {تُقاةً} أو تقية على المصدر، كقوله تعالى: {اتَّقُوا الله حَقَّ تُقاتِهِ}.

.[سورة آل عمران: آية 29]

{قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَالله عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)}.
{إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ} من ولاية الكفار أو غيرها مما لا يرضى {الله يَعْلَمْهُ} ولم يخف عليه وهو الذي {يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ} لا يخفى عليه منه شيء قط، فلا يخفى عليه سركم وعلنكم {وَالله عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فهو قادر على عقوبتكم.
وهذا بيان لقوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} لأنّ نفسه وهي ذاته المميزة من سائر الذوات، متصفة بعلم ذاتى لا يختص بمعلوم دون معلوم، فهي متعلقة بالمعلومات كلها وبقدرة ذاتية لا تختص بمقدور دون مقدور، فهي قادرة على المقدورات كلها، فكان حقها أن تحذر وتتقى فلا يجسر أحد على قبيح ولا يقصر عن واجب، فإن ذلك مطلع عليه لا محالة فلا حق به العقاب، ولو علم بعض عبيد السلطان أنه أراد الاطلاع على أحواله، فوكل همه بما يورد ويصدر، ونصب عليه عيونا، وبث من يتجسس عن بواطن أموره: لأخذ حذره وتيقظ في أمره، واتقى كل ما يتوقع فيه الاسترابة به، فما بال من علم أنّ العالم الذات الذي يعلم السر وأخفى مهيمن عليه وهو آمن. اللهم إنا نعوذ بك من اغترارنا بسترك.